حيث اننا في هذا الشهر الكريم فتوه لسماحة الشيخ ابن بازعن حكم الإحتفال بليلة النصف من شعبان
سماحة الإمام الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز :
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة ، أما بعد : فقد قال الله - تعالى - : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ . [ المائدة : 3 ] ، وقال - تعالى - : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ﴾ . [ الشورى : 21 ] .
وفي " الصحيحين " عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، وفي " صحيح مسلم " عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبة الجمعة : ( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي تدل دلالة صريحة على أن الله - سبحانه وتعالى - قد أكمل لهذه الأمة دينها ، وأتم عليها نعمته ، ولم يتوف نبيه - عليه الصلاة والسلام - إلا بعدما بلغ البلاغ المبين ، وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال .
وأوضح - صلى الله عليه وسلم - : أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال ، فكله بدعة مردود على من أحدثه ، ولو حسن قصده ، وقد عرف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر ، وهكذا علماء الإسلام بعدهم ، فأنكروا البدع وحذروا منها ، كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح ، والطرطوشي ، وأبي شامة ، وغيرهم .
ومن البدع التي أحدثها بعض الناس : " بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان ! " ، وتخصيص يومها بالصيام ، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه ، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها ، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها ، فكله موضوع ، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم ، وسيأتي ذكر بعض كلامهم - إن شاء الله - .
وورد فيها أيضا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم ، والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة ، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة ، وبعضها موضوع ، وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب ، في كتابه : " لطائف المعارف " وغيره . والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة ، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان ، فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة ، وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
وأنا أنقل لك - أيها القارئ - ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة ، حتى تكون على بينة في ذلك ، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن الواجب : رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله - عز وجل - ، وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما حكما به أو أحدهما ؛ فهو الشرع الواجب الاتباع ، وما خالفهما وجب اطراحه ، وما لم يرد فيهما من العبادات ؛ فهو بدعة لا يجوز فعله ، فضلاً عن الدعوة إليه وتحبيذه ، كما قال - سبحانه - في سورة النساء : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ . [ النساء : 59 ] ، وقال - تعالى - : ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ﴾ . [ الشورى : 10 ] ، وقال - تعالى - : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ . [ آل عمران : 31 ] ، وقال - عز وجل - : ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ . [ النساء : 65 ] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة ، ووجوب الرضى بحكمهما ، وأن ذلك هو مقتضى الإيمان ، وخير للعباد في العاجل والآجل ، وأحسن تأويلاً : أي عاقبة .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في كتابه " لطائف المعارف " في هذه المسألة - بعد كلام سبق - ما نصه : ( وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام ؛ كخالد بن معدان ، ومكحول ، ولقمان بن عامر ، وغيرهم ، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة ، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها ، وقد قيل : إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية ، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان ، اختلف الناس في ذلك ؛ فمنهم من قبله منهم ، ووافقهم على تعظيمها ، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم ، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز ، منهم : عطاء ، وابن أبي مليكة ، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن فقهاء أهل المدينة ، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم ، وقالوا : لك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين :
أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد . كان خالد بن معدان ، ولقمان بن عامر ، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ، ويتبخرون ويتكحلون ، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك ، وقال في قيامها في المساجد جماعة : ليس ذلك ببدعة ، نقله حرب الكرماني في " مسائله " .
والثاني : أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه ، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم ، وهذا هو الأقرب - إن شاء الله تعالى - إلى أن قال : ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان : من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد ، فإنه - في رواية - لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، واستحبها - في رواية - ، لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك ، وهو من التابعين ، فكذلك قيام ليلة النصف ، لم يثبت فيها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أصحابه ، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام ) . انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب - رحمه الله - .
وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - شيء في ليلة النصف من شعبان ، وأما ما اختاره الأوزاعي - رحمه الله - من استحباب قيامها للأفراد ، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول ؛ فهو غريب وضعيف ؛ لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعًا ، لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله ، سواء فعله مفردًا أو في جماعة ، وسواء أسره أو أعلنه ؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها .
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي - رحمه الله - في كتابه : " الحوادث والبدع " ما نصه : ( وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم ، قال : ما أدركنا أحدًا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها ) ، وقيل لابن أبي مليكة : إن زيادًا النميري يقول : ( إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر ) ، فقال : ( لو سمعته وبيدي عصا لضربته ) ، وكان زياد قاصًا ) . انتهى المقصود .
وقال العلامة الشوكاني - رحمه الله - في " الفوائد المجموعة " ما نصه : ( حديث : يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد عشر مرات قضى الله له كل حاجة ) . إلخ ، وهو موضوع ، وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه ، ورجاله مجهولون ، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل ) .
وقال في " المختصر " : ( حديث صلاة نصف شعبان باطل ) .
ولابن حبان من حديث علي : ( إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها ، وصوموا نهارها ) ، ضعيف .
وقال في " اللآلئ " : ( مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله ، للديلمي وغيره موضوع ) . وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء قال : ( واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة : موضوع ) .