نهاية طاغية أسبانيا
الجنرال فرانكو حكم بلاده بالحديد والنار وحوٌل أسبانيا إلي سجن كبير
ما قرأت عن طغاة التاريخ في مختلف العصور الا وامتلأ ذهني بعشرات من علامات الاستفهام الحائرة والمحيرة حول منطق هؤلاء الطغاة.انهم لا يتصورون أنهم سوف يموتون ويصدرون ترسانات من الاوامر والقوانين بهدف الحفاظ علي الكراسي التي يجلسون عليها.. ولم يستفد أحد منهم من دروس التاريخ ولا يفيق الا عندما يصطدم بواقع اليم!!
ومن الشخصيات التي استوقفتني من هؤلاء الطغاة طاغية اسبانيا الجنرال فرانكو الذي حكم اسبانيا منذ عام 1939م، وظل قابضا علي أمور الحكم فيها الي عام 1975 حيث أوصي أن يخلفه الامير خوان كارلوس ليكون ملكا علي عرش أسبانيا بعد وفاته.
وقد ولد فرانكو فرانشيسكو '1892 1975م' في مدينة 'لاكورونا'.. واسمه بالكامل فرانشيسكو فرانكو بهاموند، وقد تخرج في كلية الحرب الملكية، وأصبح أصغر جنرال في الجيش عام 1925، ووقع عليه الاختيار عام 1934 لضرب ثورة للعمال حيث أخمدها بقسوة شديدة، وقتل الكثير منهم في مناجم 'استوريا'.
ولعب فرانكو دورا في الحرب الاهلية، بمساعدة المانيا وايطاليا.. أو علي حد تعبير المؤرخ ه ح ويلز انه في صيف 1936 واجهت الحكومة الجمهورية بمدريد أزمة عصيبة بعد أن أضعفها صراع مرير مع الوطنيين ومتطرفة الشيوعيين القطلونيين، اذ فوجئت بعصيان عسكري يقوده الجنرال فرانكو علي رأس الجنود المراكشيين وتؤيده في السر المانيا وايطاليا، وقد اخفق ذلك العصيان في القيام بثورة مضادة مفاجئة لان الاسبان التفوا حول راية حكومة مدريد، ودارت في شبه الجزيرة رحي حرب ضروس ضارية مدة سنتين، كانت المانيا وايطاليا يزدادان علي الدوام اشتراكا علنيا فيها، فكان المغيرون يضربون المدن بالمدافع بكل قسوة، حتي قتل في هذه العمليات الحربية الجديدة نسبة لم يسبق لها مثيل من النساء والاطفال، ومع ذلك فان احدا لم يعلن الحرب منذ البداية الي النهاية، وفي نفس الحين كانت المانيا وايطاليا من الناحية الدولية في حالة سلم مع اسبانيا، مثلما كانت اليابان من الناحية القانونية في سلام مع الصين.
لقد قاد فرانكو الجيش الاشتراكي خلال الحرب الاهلية الاسبانية وحقق به النصر، تولي حكم اسبانيا بنظام ديكتاتوري اتاح له حكم اسبانيا بيد من حديد.. واطلق علي نفسه لقب 'الكوريللو'.. ومعناه القائد.
ورغم أن اسبانيا من الناحية الرسمية اخذت موقف الحياد خلال الحرب العالمية الثانية '1939 1945' الا أن فرانكو كان يقوم بمساعدة المانيا النازية.
لقد حكم الرجل أسبانيا حكما مستبدا، حتي انه كان يعين كل أعضاء البرلمان الاسباني 'الكارتز' والذي اقامه كمجرد ديكور حتي يقال عنه انه يمارس الديمقراطية رغم انه كمم الافواه، وملأ السجون بالمعتقلين وكان لا يطيق أن يسمع كلمة 'لا'!
فالاحكام العرفية سادت طوال حكمه.. أما المحاكمات فكانت تقام أمام محاكم عسكرية!
وكان من الطبيعي ألا يكون في وفاق مع أوربا والولايات المتحدة ولكنه اثر أن يغازل أمريكا حتي تمده بالمعونات الاقتصادية وينجو من الضائقة الاقتصادية التي كانت تمر بها اسبانيا، عارضا عليها أن تقيم قواعد عسكرية بها.
وبالفعل عقدت الولايات المتحدة مع اسبانيا اتفاقا في 26 سبتمبر سنة 1953م ليكون لها قواعد بحرية وجوية علي أن تقدم لها المعونات العسكرية والاقتصادية.
وبعد حكم استبدادي مطلق لفرانكو علي مدي ربع قرن صدر اعلان دستوري وصدر بعده بخمس سنوات قرار بأن يكون خوان كارلوس ملكا علي عرش أسبانيا بعد وفاته!
* * *
يقول الدكتور محمود متولي:
'لقد قام فرانكو خلال حكمه بنفي أكثر من نصف مليون مواطن بعيدا عن الوطن الام، واستمر الناس في موات.. وامتلأت السجون بالاحرار، وقيل إن حكم فرانكو قام باعدام أكثر من 250 ألف مواطن'!
ان فرانكو ككل طاغية في التاريخ عاش معزولا عن شعبه، يحكم من خلال البندقية ويظن انه مبعوث العناية الالهية.. ولولا المعونات الامريكية لكانت اسبانيا تعاني مجاعات متكررة..و بدلا من أن يحمي الشعب كان هو عذابا للشعب.
لم يرحل من بلاده الا مرات قليلة، وكان يخشي دائما الانقلابات العسكرية، ولذا رصد الكثير من الاموال للمخابرات والجاسوسية.
* * *
وحول نهاية الطاغية يقول الدكتور محمود متولي:
لقد كان حب السلطة لدي فرانكو أحب اليه من السلام، وكان اعتزازه بقوته أكبر من خوفه علي مستقبله املا في المكوث علي كرسي الحكم الي الابد، رافضا فكرة الموت، مغامرا بكل شيء حتي تحين ساعته.
كان فرانكو بداية من سنة 1960 أي وهو في سن الثانية والستين قد بدأ يشعر بالمرض بعد أن زاد عليه التهاب الامعاء.. وقد اصيب بالتهاب في الوريد بالقدم اليمني، وظل يعاني من المرض لمدة 15 عاما دون أن يعلم الشعب بذلك، واخيرا في نهاية 1975 أصيب بتدهور في مركز المخ الذي يوجه العضلات، وأدي ذلك الي الصلابة الذهنية، وادرك أن ساعته قد دنت..
وفي يوم 16 أكتوبر بدأ يعاني من صعوبة التنفس والقيء ودخل غرفة الانعاش بداية من 25 أكتوبر حيث بدأت 'البولينا' تنذر بنهايته.
واصيب الكبد بالتليف ثم بدأ بعد ذلك انتفاخ في بطنه.
وكانت بجانبه ابنته وزوجته وبدأ يبكي وكأنه قد احس في الخاتمة قرب ساعات الحساب.
وازداد نزيف المعدة مما اضطر الاطباء الي نقله الي المستشفي لاجراء عملية جراحية عاجلة.. توقف المخ بعدها مما كان يعني وفاته رسميا.
نعم لقد فارق الحياة في يوم الخميس 20 نوفمبر سنة .1975
وهكذا كان عقاب السماء
وكان الجزاء العادل بعد أن ادخل الرعب في قلوب رعاياه وبعد أن وضع أهل اسبانيا تحت الرقابة الصارمة وقبض علي جميع الذين اشتبه في اخلاصهم لنظامه، ونصب المشانق في مفترق المدن، واحاط نفسه بجيش من الجواسيس.
انتهي فرانكو وانسحب الي الدار الآخرة باكيا.
ولكنه لم ينس أن أعمال القمع والعنف التي تتخذه سلطة ما ضد الشعب هي الوقود الذي يشعل نار الحرية.
وعلي الشعب ألا ييأس أبدا.
فلولا الطغيان ما كسبت الحرية أكبر معاركها، وكل ضربة يوجهها الطغاة للحرية تدفعها الي الامام.
ان كل قبر حفره الطغاة للاحرار دفنهم في داخلها الشعوب.
* * *
صورة بغيضة من الصور التي تمر علي دنيانا، فتملأها قبحا وألما.. ويمضي موكب الطغاة.
ولا ينسي التاريخ أبدا أن الذين كيلوه في الاغلال، واقاموا الحواجز ضد حريته ولم يرعوا كرامته، ولم يصونوا آدميتهم سوف ينساهم التاريخ، ويهيل عليهم تراب النسيان، ولا يذكر الناس لهم الا صب اللعنات عليهم، وعلي أيامهم التي عانوا فيها ما عانوا.
ويبقي تساؤل.. هل تنتهي صور الطغيان؟
والاجابة.. سيظل الطغيان علي الارض لانه لا أحد يستفيد من دروس وعظات التاريخ!